مها حسن
قاصة وروائية كردية سورية من مدينة حلب مقيمة في باريس – فرنسا.
تحوّلت وسائل التواصل في يوم النوروز إلى ساحات ملونة من الفرح. طغى فيها الودّ والانسجام بين السوريين، بل وبين الأصدقاء العرب من البلاد المجاورة: مصر، لبنان، الأردن، اليمن، المغرب… وكأنّ عصا كاوا السحرية، مسّت الجميع، لتنتقل عدوى الفرح بسرعة إشعال نار نوروز، لتمتلئ صفحاتنا بالموسيقا الكردية وعبارات التهنئة باللغة الكردية، كأنّنا في مهرجان عالمي للفرح والأخوة بين الشعوب.
هو يوم طارئ ربما، ستعود بعده الأمور إلى مجراها ما قبل الاحتفال بالنوروز، حيث ستظهر مجدداً آثار الاعتداءات والإساءات التي تعرّض لها الكرد السوريون، خاصة وأنّ عفرين محتلة اليوم، وحيث يقيم البعض من نسائها وأطفالها في المخيمات، محرومين من بيوتهم وأرضهم وأمانهم.
ربما يكون هذا الفرح الطارئ مناسبة للتفكير في إمكانيات خلق مساحة جديدة مشتركة من فهم الآخر. فإذا كان جميع الذين هنؤوا الكرد بهذا اليوم، لا يعرفون اللغة الكردية، ويجهلون الكثير عن الخصوصية الثقافية للكرد، فإنّ مجرد رؤية صور ملابسنا الملونة، وسماع أغانينا، قد مسّهم بسهم “كيوبيد” خالق المحبة، فهذا يدل ربما على الفطرة المشتركة لدى الجميع: البحث عن السعادة.
لكن ما تخلقه الفطرة، تحطمه السياسة، التي تعتاش من أعشاب الكراهية والتفرقة وبثّ الخلافات بين الشعوب. وهذا ما يتطلب من المشتغلين في الحقلين الثقافي والإعلامي، من غير المنضوين تحت أجندات سياسية، التعمق في موضوع الكراهية، ومواجهة الذات ومراجعتها بشجاعة، لمنح الآخر ـ المُحتل، المسلوب، حقه في تقدير حجم الألم الذي وقع له.
لهذا علينا جميعاً، وخاصة الطرف المنحاز للجانب القوي، المعتدي، أن يعترف بأخطائه. على سبيل المثال، يمكننا العودة إلى التغريدة التي أشعلت مواقع التواصل، حين قالت إحدى المنضويات في صفوف الائتلاف، بأنّها تزرع الزيتون في عفرين، وقد ذهبت بحماية ورعاية المحتلين، لتقف على أرض، هُجر أصحابها.
في السياق ذاته، اعترضت شابة من الرقة، وضعت صورتها على مواقع التواصل، مبتسمة وسعيدة في حقول عفرين، على قيام أحد الشباب الكرد بانتقادها، قائلة إنّ عفرين أرض سورية، ومن حق أي سوري، التوجه إلى أية بقعة أرض في سوريا.
بطبيعة الحال، وفي الظروف العادية، فإنّ كلام الشابة الرقاوية لا غبار عليه، ولكن أن أذهب غداً لزيارة الرقة، بتسهيل ورعاية زيارتي هذه من قبل القوات الكردية المسيطرة على المنطقة، فلا أعتقد أنني أستطيع التبجّح أن الرقة أرض سورية ومن حقي زيارتها. حيث هذا الحق محرّم على أهلها الأصليين.
من هنا، فإنّ توجه أي شخص من خارج عفرين، التي هُجّر أهلها، لالتقاط الصور السعيدة والتباهي بوجوده هناك، فإنّ الجميع يعرف، أنّ هذا الشخص قد حصل على تسهيلات من القوى المسيطرة على المنطقة، التي لن تسمح بدخول الخصوم الكرد، وأنّها تستقبل بحفاوة، المقربين منها أيديولوجياً، أي المتضامنين مع الفصائل الإسلامية، ضد الكرد.
الصورة إذن ذات دلالات سياسية، تماماً كالتغريدة التي وضعهتا السيدة المقربة من الائتلاف السوري. هذه ليست صوراً بريئة نلتقطها في زياراتنا السياحية لأماكن نذهب إليها كزائرين، بل هي موقف ضد أهالي المنطقة الأصليين المحرومين من بيوتهم والمطرودين منها. يشبه الأمر أن يذهب أحدنا إلى لتناول الطعام في بيت رجل مقتول. الجلوس على مائدة القتيل الغائب، هو مساهمة في أكل لحمه وشرب دمه.
من هنا يتوجّب على كل سوري اليوم، أن يكون دقيقاً في سلوكه، عادلاً في تصرفاته، يفكر في الطرف الآخر، الذي لا يملك الحق في القيام بالسلوك ذاته. أي إنّ الشابة المقربة من الائتلاف مثلا، كان عليها أن تعتذر، إذا افترضنا أنّها قامت بحسن نية، بالتحدث عن زيتون إدلب الذي تزرعه في عفرين، بدلاً من العناد والاستمرار في بثّ الكراهية بين السوريين، لأنّ اعتذارها هو موقف أخلاقي، يخفف القهر العفريني، لأشخاص يشعرون بالمهانة والطرد والحرمان من بيوتهم وأراضيهم.
لم يخطر ببال السيدة التي تلتقط الصور في حقل الزيتون في عفرين، أن تسأل أين هو صاحب الأرض الأصلية؟ هذه البديهيات القاتلة، تتحول إلى هويات قهرية من الكراهية، يتحمل مسؤوليتها الطرف الأقوى عسكرياً.
بين الرقة وعفرين
من ناحية أخرى، ومن باب التبجح، والإنكار، وعدم الرغبة في الاعتراف بالخطأ، يأتي التبرير بأنّ القوات الكردية المسيطرة في مدن أخرى: منبج والرقة ودير الزور… أيضاً تمارس نفس السلوكيات التي تمارسها الفصائل الإسلامية المدعومة من تركيا، في عفرين.
هذه المقارنة بين القوات الكردية والفصائل مجحفة، إذ لا يمكن مقارنة سلوك القوات الكردية صوب الأهالي في تلك المدن، بسلوك الفصائل الإسلامية صوب الأهالي في عفرين، فنحن لم نسمع عن اغتصاب أو طرد أو سحل نساء أو رجال من منبج والرقة والدير، بينما شاهدنا على الملأ كيف قامت الفصائل بسرقة البيوت في عفرين، حتى إنّها سرقت الدجاج والسيارات، بوصفها غنائم حرب، وهناك عشرات الشهادات المروية عن الانتهاكات التي قامت بها الفصائل بحق النساء، واعتقال “الحمزات” لصبايا كرديات وتعذيبهن، كقصة ناديا سليمان، وهي غيض من فيض، الصبية ذات الأربعة والعشرين عاماً، التي أدلت بشهادتها الموثقة عبر مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا.
هذا الفارق الأيديولوجي الكبير، بين المرجعية الدينية وفكرة الغنائم التي تبرر اغتصاب نساء الخصم، لا يتواجد نظير له في الأيديولوجيا الكردية، ولم يُعرف عن القوات الكردية قيامها باغتصاب امرأة عربية. بل تظهر واضحة صورة المرأة الكردية والعربية معاً، في المشهد السياسي والعسكري الكردي، بوصفها ندّاً لا خاضعة أو خانعة. ولم يقم أي فصل كردي باعتقال امرأة غير كردية بوصفها غنيمة، وما تزال صورة بارين كوباني راسخة في الذاكرة، حيث لا يمكن أبداً العثور على نظيرتها، كنساء تعرضت حتى جثثهن للاعتداء، لدى القوات الكردية.
يصعب إذن مقارنة سلوك الفصائل الكردية المنتمية إلى أيديولوجيا يسارية ذات توجه علماني يحترم المرأة وبين فصائل تحمل أيديولوجيات تابعة للقرون الوسطى، ناهيك عن أنّ دخول القوات الكردية، وهذا ما ينساه الجميع تقريباً، كان لدحر داعش من المنطقة، ولم يتم تهجير أهل القرى لأنّهم عرب، بينما تم تهجير أهل عفرين لأنّهم كرد ولديهم خصوصيتهم اللغوية والثقافية.
للذهاب قليلاً صوب العدالة، علينا الانتباه للفارق الحضاري والثقافي بل والإنساني بين أداء القوات الكردية في المدن العربية، وبين أداء الفصائل الإسلامية المتطرفة، في المدن الكردية، وفي عفرين على وجه الخصوص.
ليفانت – مها حسن