روماف – رأي
سألني صحافي قبل سنوات عن الجهة أو الجهات التي تقف خلف «داعش» في كل من سوريا والعراق. وكان جوابي هو التالي: الصورة غير واضحة بالنسبة للجهة الداعمة، لأن الكل يتهجم على هذا التنظيم (الكوكتيل المخابراتي)، ويتنصّل منه، ويدّعي محاربته. ولكننا نعرف تماما أن طرفين من الأطراف الإقليمية قد استفادا منه تمام الاستفادة وهما: النظام الإيراني وسلطة بشار الأسد. فبذريعة محاربة الإرهاب قتلت الميليشيات المذهبية من أذرع نظام ولي الفقيه الإيراني السوريين، وجوعتهم، ودمرت مدنهم وبلداتهم، وشرّدتهم. ثم جاء الروس ليكملوا المهمة بالتنسيق مع الإيرانيين، وأمام صمت أمريكي لافت في عهد أوباما.
أما في العراق فقد كان ظهور داعش الهوليوودي في عهد المالكي في الموصل 2014، وإقدامه على ارتكاب المجازر بحق الإيزيديين وجرائم الاغتصاب بحق الإيزيديات، مقدمة لتشكيل ميليشيات الحشد من العراقيين، وبأموال الدولة العراقية، لتكون أدوات جديدة في مشروع نظام ولي الفقيه الذي يستهدف السيطرة على العراقيين وثرواتهم عبر ترويعهم، وتخريب مجتمعات ودول الجوار، ليتمكن النظام المعني من التوسع والسيطرة.
ومع الوقت كُشف النقاب عن المستور المعلوم على صعيد العلاقة الوثيقة بين النظام الإيراني والقاعدة وأخواتها من داعش وغيرها، كما أُلقي الضوء على العلاقة بين سلطة بشار الأسد وداعش، وتبادل الأدوار والمهام، لدرجة أن الأمور وصلت إلى حد نقلهم بالحافلات المكيّفة من الحدود اللبنانية إلى الحدود العراقية، والتنسيق في المهام، وتبادل المصالح.
ولعل ما جاء في مذكرات مايك بومبيو وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابق حول علاقة نظام ولي الفقيه مع القاعدة، وما ذهب إليه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بخصوص دور سلطة بشار في ظهور داعش، يلقيان الضوء على الكثير من المسائل التي ستضع النقاط على الحروف، ولكن بعد تفاقم محنة العباد وخراب البلاد.
مناسبة هذا الكلام ما تشهده السويد حالياً من شد وجذب على المستوى الداخلي بين الأحزاب السياسية الموجودة ضمن البرلمان، سواء المشاركة في الحكومة والداعمة لها، أم تلك التي هي في المعارضة، حول الأسباب التي تعرقل المفاوضات مع تركيا بغية الحصول على موافقتها في موضوع الإنضمام إلى حلف الناتو؛ وهو الموضوع الذي بات ملحاً بعد الهجموم الروسي على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير من العام المنصرم، وذلك بعد سلسلة الأعمال التصعيدية التي من الواضح أنها استهدفت عرقلة المساعي السويدية التي بُذلت في عهد الحكومة السابقة والحالية بقصد الحصول على الموافقة التركية المطلوبة.
ويُشار هنا بصورة خاصة إلى موضوع حرق نسخة من المصحف الشريف أمام السفارة التركية في ستوكهولم من قبل المتطرف اليميني الدانماركي- السويدي راسموس بالودان، الأمر الذي اثار احتجاجات واسعة في عدد من الدول الإسلامية ومنها تركيا بطبيعة الحال، بل وصلت الاحتجاجات إلى حد دعوة الأزهر إلى مقاطعة البضائع السويدية، وتصاعدت نبرة الحملات التي كانت تستهدف السويد منذ مدة، وهي الحملات التي استندت إلى معلومات غير صحيحة حول ادعاءات خطف «أطفال المسلمين» من قبل دائرة الشؤون الاجتماعية، هذا رغم ارتكاب بعض الأخطاء الفردية التي حدثت، وتحدث نتيجة عدم الخبرة؛ ولكن هذه الأخطاء لا تسوغ القول بأن حالات سحب الأطفال من أسرهم تستهدف الأطفال المسلمين بناء على انتمائهم الديني، كما روجت بعض الجهات هنا وهناك.
إلا أن الذي حصل بعد إقدام بالودان مجددا على احراق المصحف، هو أن تلك الحملات انتعشت وتصاعدت وأصبحت أكثر حدية، وهناك خشية سويدية اليوم من اعتداءات، وحتى عمليات إرهابية تطال السويدين والمصالح السويدية في الداخل أو الخارج، وهو الأمر الذي بات مقلقا للحكومة السويدية، ما دفع برئيسها مؤخراً إلى اجتماع عام لقادة جميع الأحزاب المشاركة في البرلمان للتباحث حول الوضع الأمني الاستثنائي، وهو الوضع الذي لم تشهده البلاد منذ الحرب العالمية الثانية 1939-1945.
وما يستنتج من توضيحات وتعليقات السياسيين السويديين في الحكومة والمعارضة، هو أن الثغرات التي يعاني منها قانون حق التعبير قد اُستغلت من قبل قوى خارجية، وأخرى داخلية تفكّر في مصالحها الحزبية أولاً دون المصلحة السويدية العامة، وهذا ما فهم من النقد الذي وجهته رئيسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى رئيس حزب ديمقراطيي السويد المعروف بتشدده تجاه المهاجرين، والمسلمين منهم تحديداً، وهو يسعى لتوسيع قاعدته الشعبية التي تعرضت لتآكل ملحوظ بعد الانتخابات الأخيرة، من خلال التهديد بالخطر الذي يمثله المهاجرون المسلمون مستقبلاً على الثقافة والقيم والهوية السويدية.
فالقرآن هو الكتاب المقدس لدى المسلمين، وعملية احراقه أو تمزيقه بصورة علنية استفزازية أمام المسلمين أمر يسيء بعمق إلى مشاعرهم، ويستهتر بهويتهم الدينية، ويسلّمهم إلى حالة من الإحباط والذهول. فالاعتداء الملموس على القرآن لا يعادله من جهة السوء في وجدان المسلم لا سيما الملتزم، أي اعتداء آخر، حتى ولو كان على الأشخاص المسلمين أو المساجد. ومن الواضح أن هذا الأمر يستوجب إعادة النظر من قبل الجهات السويدية التشريعية والحكومية لتلافي حالات استغلال ثغرات قانون حرية التعبير مستقبلاً، وهي الحالات التي ثبت ضررها على مستوى السلم الاجتماعي السويدي، وعلى مستوى علاقات السويد الدولية.
هل هناك جهة، أو جهات، خارجية أسهمت في توتير الأجواء بين السويد وتركيا والعالم الإسلامي؟ ومرة أخرى نقول بالعودة إلى الحديث حول السؤال الخاص بداعش: ربما لا تسمح المعطيات المتوفرة حالياً لنا تحديد تلك الجهات بصورة دقيقة، ولكن المؤكد المعلوم هو أن لروسيا بوتين مصلحة مباشرة في ذلك، فهي تدرك أن السويد هي في طريقها إلى الناتو، كما تعرف علم اليقين ان السويد متوجسة، بناء على التجارب التاريخية، من النزعة التوسعية الروسية، خاصة في ظل حكم رئيس يعلن صراحة شوقه إلى الماضي الأمبراطوري الروسي، ورغبته في استرجاع موقع الدولة العظمى بالقوة العسكرية العارية، وذلك لتيقنه من أن وضع بلده الذي يعد واحداً من أكثر البلدان فساداً في العالم، ومستواه العلمي والتقني، لا يسمحان له بإثبات عظمته بفعل لانجازات الحضارية التي تكون عادة موضوع احترام وتقدير العالم.
فروسيا هي المستفيدة من عرقلة انضمام السويد إلى الناتو، وهي المستفيدة من تشويه سمعتها في العالمين العربي والإسلامي، وهي المستفيدة في نهاية المطاف من تصاعد اليمين المتطرف الذي يسعى من أجل الوصول إلى الحكم وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، ليتمكن لاحقاً من إفراغ العملية الديمقراطية من محتواها، أو حتى تعطيلها، والأمثلة في الماضي والجوار الأوروبي عديدة في هذا المجال.
السويد تواجه اليوم مأزقاً حقيقياً، ستكون انعكاساته السلبية مؤثرة في مختلف الميادين في ظل استمرارية الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالية تصاعد وتيرتها واتساع دائرتها، وعدم التوصل إلى حلول على المستويين الخارجي والداخلي. فروسيا تعلن من دون أي مواربة بأنها مستعدة لاستخدام كل أنواع الأسلحة من أجل تحاشي الهزيمة؛ والدول الغربية مصممة على منعها من تحقيق الانتصار بشروط بوتين لأن التبعات ستكون وخيمة. ولا تبدو في الأفق محاولات جادة بهدف التوصل إلى حل مقبول يؤدي إلى إيقاف الحرب.
والسويد باعتبارها من البلدان القريبة جداً من ميدان الحرب المشتعلة، وربما تصبح أقرب في حال توسع نطاق المعارك واشتداد وتيرتها، لهذا فإن عضوية الناتو في ظل الموازين الحالية قد باتت من أكثر المسائل حيوية التي تعطيها الحكومة الأولوية القصوى، وذلك لن يتحقق من دون مساندة الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول من ناحيتها بلوغ صيغة من التفاهم مع تركيا ورئيسها أردوغان الذي يستعد لانتخابات يعتبرها مفصلية بالنسبة له، ويمتلك من الأوراق ما تمنحه مساحة أوسع للمناورة والتسويف على مختلف الجبهات، سواء في سوريا أم مع إيران واذربيجان، أو مع الروس والأوروبيين. هذا بالإضافة إلى ليبيا ومنطقة شرقي المتوسط. ومن هنا تأتي أهمية الدور الأمريكي في دفع الأمور نحو تفاهمات، ولو في حدودها الدنيا، تفتح بوابة الناتو أمام السويد ومعها فنلندا.
أما على المستوى الداخلي، فإن حكومة الأقلية الحاكمة ستواجه المزيد من المشكلات إذا ما استمر تحكّم اليمين المتشدد في رسم سياساتها، خاصة من جهة التحامل على المسلمين بصورة عامة، ومن دون التمييز بين المعتدلين المندمجين مع المجتمع وأولئك المتطرفين الذين يمثلون أقلية الأقلية، هؤلاء الذي يستمدون النسغ من التوجهات والسلوكيات المتطرفة من جانب أعضاء ومناصري حزب ديمقراطيي السويد وغيرهم من المتطرفين. فالحكومة السويدية لن تتمكن من معالجة القضايا الداخلية الحيوية بحكمة لصالح المجتمع والدولة السويديين عبر استمرارية التعاون مع الحزب المعني، ويُشار هنا على وجه التحديد إلى قضية الموقف من الإسلام والمسلمين في المجتمع السويدي. فعملية التوصل إلى حلول متوازنة معقولة ستساهم في تعزيز الأمن والاستقرار ضمن المجتمع السويدي على قاعدة احترام التنوع المجتمعي، والالتزام بالقوانين السويدية الديمقراطية، ولبلوغ هذا الهدف الذي يُعد مصلحة سويدية عامة، هناك حاجة ماسة للتعاون والعمل المشترك بين الأحزاب المعروفة باعتدالها، وحرصها على احترام إنسانية الإنسان بغض النظر عن دينه وقوميته ولون بشرته وجنسه وموقفه السياسي أو الفكري.
*كاتب وأكاديمي سوري