روماف – رأي
تكثُر التصريحات الإعلامية في هذه الفترة حول أن في السياسة لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل هناك مصالح مشتركة، أي لا مبادئ في السياسة، وهذا يعني لا أخلاق ولا رحمة ولا شفقة، إنما المصالح والنفوذ الواجهة المثلى للعلاقات الدولية، (رغم أن هذه المقولة قديمة، ولكن مناسبة الحديث عنها هو تكرارها الآن)، وكأنهم يبرهنون لأنفسهم أنهم يفعلون ذلك على قناعة أن تمرير مصالحهم على حساب دمار شعوب أخرى بأنهم على صواب، ويفعلون بالأخلاق والإنسانية، وهم في باطن ضمائرهم إن كانوا يملكون ضمائر إنهم شياطين مُغلفة بـ لباس الإنسانية.
كما يحدث الآن من لقاءات بين مسؤولين من روسيا وتركيا والنظام السوري تمهيداً لـ اللقاء بين الرؤساء الثلاثة، بوتين ورجب طيب أردوغان وبشار الأسد، في وقت سابق كانت مثل هذه اللقاءات مستحيلة، وعلى ما يبدو أن الظروف الدولية صالحة لـ “هكذا لقاءات”، إذا كان كذلك هذا يعني أن السنوات الأحد عشر من الدمار والخراب والتشريد والقتل قد خسره الشعب السوري دون مقابل ودون رادع أخلاقي يرف له جفون ضمائر الدول العالمية والمنظمات الحقوقية والإنسانية التي تتباهى بديمقراطياتها ودفاعها عن مصير الدول والشعوب في حق تقرير المصير وحقوق الإنسان في العالم، أو أن ما يتم تداوله في الوسائل الإعلامية من تمهيدٍ لـ لقاء قريب بين تركيا والنظام السوري، ليس سوى فقاعات إعلامية لمآرب أخرى، أو كما يقال لغاية في نفس يعقوب.
تسير الظروف والأحداث الدولية بخطى حثيثة نحو ما خطط ورسم له منذ بداية خلق فوضى خلاقة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، نزالات وصراعات بين أمريكا وروسيا من جهة، وكذلك بين أمريكا والصين من جهة أخرى، في الأولى صراعات لنهب خيرات الشعوب، أما في الثانية صراعات السيطرة على طرق التجارة العالمية والبحث عن أسواق لتنفيذ تجارتها وصرف منتجاتها، كما حصل خلال السنوات الماضية من تجارة مربحة في سوق السلاح والتي وصلت إلى مليارات الدولارات، هذا الربح الجشع لا يكون سوى على أشلاء الإنسانية.
وعلينا أن لا ننسى أن الاتفاقات الدولية والتي أوجدت حدوداً سياسية ودولاً تابعية في منطقة الشرق الأوسط قد أوشكت على نهايتها، وهنا نسأل: هل هناك ضمن تلك البنود وجوداً لبنود سرية خافية على الجميع سوى من هم في الغرف المظلمة؟ البنود العلنية الجميع يعرفها ويفهمها، ولكن ما هو في السر إن وجد، قد تكون بداية نهاية لحقبة مئوية كانت الأكثر دموية على الشعوب المظلومة وخاصة الشعب الكُردي، الذي تمَّ تجزئة وطنه بين أربع دول فقط خُطَّ بخط يد من كان يدرك أن هذه العملية ستخلق إشكالية ونقطة ضعف يمكن استغلالها بعد مئة عام، لذلك ما نراه من إشكالية القضية الكُردية المعقدة، وتداخلاتها وتشابكها في العلاقات بين الدول الإقليمية والعالمية، رغم أحقية وشرعية هذه القضية حسب الشرائع والقوانين الدولية، تسبب صراعات بينية وتخلق تشابك وتداخل في العلاقات بين الدول، وقد تصل في نهاية الأمر إلى حرب مدمرة لا قدر الله، والخاسر الوحيد هم شعوب الشرق الأوسطية وخاصة الكُرد.
ولا ننسى أيضاً، أن تلك الاتفاقيات عقدت على حساب روسيا وتركيا وإيران، التي خسرت الحرب العالمية الأولى لصالح بريطانيا وفرنسا، الدولتين العُظميين آنذاك، ومن خلفهما الولايات المتحدة الأمريكية الدولة، الفتية في ذاك الحين، والفوز في الحرب هذا يعني أن لهم الحق في الرسم والتخطيط على حدودٍ دولية.
إذا ما أمعنَّا النظر من خلال مجهر التحليل والمقارنة نلاحظ أن كل ما يحدث الآن من أحداث متسارعة وصراعات بين مَن كانوا أعداء الأمس أمسوا اليوم أصدقاء، وبين مَن كانوا أصدقاء أمس أصبحوا أعداء أو شبه عداوات تُمهد لتحالفات وعلاقات جديدة قد تضرب كل ما كان في الماضي في عَرض الحائط، وهذا ما نراه من تسارع في اللقاءات والاجتماعات وأساليب الضغط والمراوغة والالتفاف التي تمارسه الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، كـ تركيا وإيران، وكذلك روسيا، للحصول على أكبر قدر من المكاسب، ولتثبيت لها موطئ قدم في المئة السنة القادمة، لذا فتكرار تلك المقولة السياسية الشهيرة قد تكون لها أبعاد أخرى في التحالفات والجغرافية المستقبلية للمنطقة مغايرة لِما كانت الآن.
روسيا، التي دخلت في حرب مع أوكرانيا بإرادتها وأخذت تستنفذ كل طاقاتها وإمكاناتها وهالتها العسكرية دون أن تدرك عواقبها المستقبلية الكارثية، وتحاول عكس البوصلة بالضغط على مناطق أخرى لتخفيفها عليها في أوكرانيا، والتقارب الروسي والتركي في الملف السوري سياسة التفاف روسيا على حساب الحلقات الضعيفة في المنطقة، وخاصة الملف الأكثر إثارة، والتي تجعل من الجميع بالكشر عن أنيابها، وهو الملف الكُردي، والذي يتم تمرير ملف الكُرد في سوريا إعلامياً عن قصد أو دون قصد باتهامات انفصالية لخلق واقع جديد من خلال فتح باب الفتن والنعرات الطائفية بين المكونات السورية وتأليب المكونات بعضهم على بعض، غاية روسيا من كل ذلك استعادة هيبتها وعظمتها كـ قطب عالمي مهم في السنوات المئة القادمة.
تركيا، والتي ترى في نفسها أنها صاحبة هذه الجغرافيا، وأنّ بريطانيا وفرنسا انتزعت أوصالها دون وجه حق، ومن حقها بعد انتهاء مئوية الاتفاقيات التي رسمت تلك الجغرافيات أن تطالب بعودة تلك الأوصال، وهذا ما يلاحظ من تماديها في الجغرافية السورية والعراقية، والإشكالية الكُردية التي خلقتها تلك الاتفاقيات الحلقة الأكثر إثارة لـ لعب تركيا على هذين الساحتين، والتصريحات الأخيرة من المسؤولين الأتراك حول التقارب مع النظام السوري ليست سوى هالات إعلامية وأساليب المراوغة للحصول على مكاسب جديدة في سوريا.
إيران، الدولة المارقة والحاذقة والحاقدة التي تلعب على حبال الخلل السياسي في المنطقة والاستفادة من جغرافيتها التي تُجبر الدول الكبرى على المفاوضات معها ومن خلالها تحصل على ما تريد من تنازلات، ما يؤرقها الخلل الموجود في داخلها من وجود عدة قوميات وبأعداد ضخمة من الكُردية والعربية والآذرية والبلوشية وغيرها، وهذا الخلل قد يكون سبباً لتغييرات جديدة في الجغرافية السياسية لمئة سنة قادمة، والأحداث الأخيرة أكبر دليل على ذلك، ومحاولاتها من تصدير أزمتها نحو الخارج ليست سوى أساليب الضغط والحفاظ على وجودها مستقبلاً.
أعتقد أن العالم مقبل على ترتيبات جديدة وتحالفات مغايرة لِما كانت عليه في الماضي، وقد تظهر حدود سياسية وجغرافية جديدة على مقاسات معينة، حسب ما تملي عليه المصالح والنفوذ. والكُرد داخل هذه التحالفات والتغييرات، وليكون لهم وجود عكس ما كان في الماضي هو لملمة الشتات وتوحيد الهدف ووضع مشروع مستقبلي يوازي مصالح الدول الكبرى، هكذا سيجدون لأنفسهم موطئ قدم في قادم الأيام على الخارطة الجغرافية والسياسية العالمية، وغير ذلك سيكون كما كان في الماضي.