شفان إبراهيم
تقول مرويات المعارضة السورية وأدبياتها لـ “السوريين الكُرد” إننا في “الجمهورية العربية السورية” نسعى لتعيشوا سعداء في سورية المستقبل. هكذا ببساطة، تنطلق الأصوات، عبر نسق العروبة، في توصيف ضرورة تعريف البُعد الوطني للكُرد وتفضيله على انتمائهم القومي، مقابل أن تكون العروبة العنوان، والشمول لكل المكونات. بهذا المعنى تحديداً، لا يخرج وطن المستقبل “التخيُلي” عن إطار صبغ المكونات الأخرى بطابع هويّاتي قديم، مع شيءٍ من التشييد الفوقي لمفهوم الهويّة الجامعة، لكن من دون المساس بالبنى التحتية المؤسِسة للهدوء بين الهويّات ونارها المستعرة، حيث مساعي الأكثرية للسيطرة على القوميات المغايرة لها، والتصدّي للدفاعات التي تلجأ إليها الأقليات والقوميات التي تناضل في سبيل عدم صبغها بلون الأكثرية، تظل المدماك الرئيسي لنمطية العلاقات بين المكونات، خصوصا أن طالبي الدفاع عن هويّاتهم الفرعية، وتجسيدها عملياً، يُدرِكون ذواتهم، ليس على مستوى الشعور، أو التخيل فحسب، إنما يعون رغبتهم بوجود كيان وثبات هويّاتي مستقبلي، وأن الوعي بمقارعة الهويّة الفرعية لهويّة الأكثرية ليس من الضرورة أن يكون مرتبطا بفعل التعبير الدائم؛ فالدفاع عن الخصوصيات والمطالبة بها يخضع، بشكل واضح، لمبدأ الوضع السياسي والأمني، إذ ليس المطلوب أن تكون الدعوات مستمرّة على طول التاريخ، بل يشتد الطلب، بحسب الظروف، لتخبو للمسببات نفسها أيضاً. وفي أحيانٍ كثيرة، التصدي بالجسد أمام أيَّ عنف تلجأ إليه السلطات هو تحدٍّ بمستويين: الثبات أمام المطلب للتشييد الهويّاتي من جديد، لتكون بمثابة قنطرة للعبور نحو سورية جديدة. ورفض القوميات عملية الانتقال التي تسعى، أو سعت إليها السلطة، من السيطرة على الأجساد إلى الأذهان، وفق تعبير ميشيل فوكو. بعد عجز فرض السيطرة والمحق الجسدي.
التشييد الهويّاتي الجامع إنما ينتعش عبر حركة مركبة من التمايز والانسجام والتداخل
تنظر الجماعات الفرعية إلى وعيها بهويتها الخاصة أنه المعنى الأول للاتصال بالعالم الخارجي، والثبات الداخلي، فتظهر معها دينامياتٌ مختلفةٌ لتدفع بالهويّات إلى التشبث بحالتها مدى الحياة، وبما ينجم عنها من عمليةٍ معقدة، تربط الذات الهويّاتية مع الاندفاع الجماهيري في دفاعها عن حقوقها، خصوصا وأن الحديث عن الهويّات الفرعية المتعدّدة في سورية من المعارضة السورية، تصطدم بداء التعقيد وأبعادها الكثيرة ما أن يتم التحليل السياسي والمستقبلي لها، وكيفية تجسيدها دستوريا، خصوصا وأن الشعور بالتفرّد ملازم لتلك الهويّات، يقابله شعور التمسك والثبات بأفضلية الهويّات السائدة، هويّة الأكثرية. وأكثر النقاط غياباً عن الحوار أو الطروحات التي تقول إنها تنشد الحل، إنما هي صورة (وشكل) الهويّات التي ترى نفسها فيه، أو كيف تتخيّل الهويات الفرعية، الهويّة الجامعة، خصوصا وأن هذه الصورة إنما هي الفعالية التي يشعر صاحب الهويّة الخاصة، من خلالها، بقيمته وفقاً لمستويات أربع. أولها: النظرة الداخلية الخاصة، أي ما يشكله للوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وما يرغب أن تكون عليه تلك الهويّات بوصفها ذاتا فعالة في تعاملها مع وسطها الهويّاتي المتعدّد. وثانيها: الهويّة المعاشة ككيان خاص. وثالثها: الشعور الذي تمتاز به الهويّات الفرعية، بالتفرّد والظاهرة المعقدة والتمايز عن الأكثرية، فإنها تحمل أيضاً مفارقات وصفات تماثل باقي الهويّات وتتشابه معها، فيتضح التماثل والاختلاف من الهويّات الفرعية والمركزية، وضرورة البحث عن مخرج رسمي لحماية الاختلاف ويعمق التماثل. والرابع: التشييد الهويّاتي الجامع إنما ينتعش عبر حركة مركبة من التمايز والانسجام والتداخل، أي هويّة تتميز عن غيرها وتتماهى معها، خصوصا وأن التشييد الهوياتي، الموجود حالياً، ما بين مؤسسات الحكومة السورية، أو توجهات المعارضة السورية، تدفع نتائجه القواعد الاجتماعية الحالية/ الكُردية والآشورية/ وغيرها، بسبب آلية التشبيك المتعرّجة والمفخّخة منذ بدايات نشوء الدولة السورية، وتعميق هذه المفخّخات في الهوية الجامعة منذ 1963 أي أن ما تعيشه اليوم الهويّة القومية في سورية ليس مرحليا أو لحظيا، إنما هو منتج شديد الحساسية، ومحفّز نفسيا لأي أنشطة غير موافقة مع الهويّات الخاصة، إلى درجة أن الأجيال الحالية تحمل إرثاً نفسياً عميقاً حول سحق هويّة آبائهم وأجدادهم، فيسعون جاهدين عبر التعاون مع من سبقوهم بالبحث عن فردانية هوياتهم، أو التعبير عن ذلك علنا. على أمل التوافق مع عموم السوريين حول صيغ تحمي هوياتهم منذ اللحظة، وإنهاء كل أشكال العنف، خصوصا وأن الشغف بالهويّة يتأثر بشكل مضطرد مع الراهنية، سواء الخطابات السياسية أو وسائل الإعلام أو المنتديات والندوات، عدا عن الدور العميق للأسماء والثقافة القومية بشكل عام في تنامي شعور التمسّك بالهويّة الخاصة.
الشغف بالهويّة يتأثر بشكل مضطرد مع الراهنية، سواء الخطابات السياسية أو وسائل الإعلام أو المنتديات والندوات، عدا عن الدور العميق للأسماء والثقافة القومية
وسط هذا التشييد المطلوب، والمرغوب من الهويّات الفرعية، والمرفوض والمفقود حالياً من الأكثرية، وهذه الأخيرة لم تسع، ومنذ عقد، إلى بلورة هويّة جامعة، لا يزال الصراع في أوجه، وإن كان مستتراً بعيداً عن نار المواجهة الفعلية المباشرة، لكن الاستشعار والتنبؤ المستقبلي به أيضا واضح. فإما أن يكون الجميع منطلقين من الانتماء الوطني والحفاظ على الخصوصيات القومية، أو أن للكل الحق في البدء بالتعريف القومي مدخلا على التعريف الوطني. وما بين هذه وتلك، يتعرّض التشييد المأمول لمزيدٍ من الرواسب والإرث المشبع بالنزعات العدائية، إذ لا نظام سياسيا ولا شكل دولة لا حالياً ولا سابقا، ولا بوادر لطرح جديد، يحمي أو يمهد الأرضية لتبريد نار الهويّات المتغولة، خصوصا وأن قضية المواطنة، بوصفها مشروعا كفيلا بصون تلك الهويّات المتعدّدة، إنما تعود في أصل المشكلة وجذرها، إلى غياب النظام السياسي المساعد في رفد المواطنة بآليات وأدوات تفعيل المواطنة التي تجد نفسها مكبلة دوماً.
نقلا عن العربي الجديد