روماف – مقالات
يوسف حمك
لحظاتٌ كثيرةٌ في مكان عملي هادئةٌ ، يتلاشى الضجيج فيه تدريجياً ، ليتموضع الصمت مكانه .
و لما كان الهدوء يوقظ المشاعر الدفينة في دهاليز صدورنا ، ففي عمق السكون نبدأ بقلب صفحات الذاكرة ، لنشتم عبق أيامٍ مليءٍ بالابتسامات ، فتغمرنا فرحةٌ قد لا تطول ، كونها الشجون و الحسرات و الأفراح في تزاحمٍ و تدافعٍ دوماً .
كانت عقارب الساعة قد تجاوزت السادسة قبيل بزوغ الشمس ، و صباحي كان مفخخاً بالهم و بعض القلق ، حينما أقبلت فتاةٌ تحمل ملامح من تكون ضمن أولويات حافظة ذاكرتي ، و الأسبقية لها بالنسبة لاهتماماتي .
دخولها المتجر كان بمثابة شبه اقتحامٍ . شرعت أتفحص خلسةً و بعنايةٍ فائقةٍ حقول وجهها الناضجة بالملامح المريحة التي تغسل الهموم ، و تزيل القلق . مع المقارنة بملامح الغائبة عن العين و الحاضرة في الذهن دوماً .
الملامح كانت قريبةً على مرمى بصري ، و الوقت كان كافياً لأن أحشد جل تركيزي ، فتتضح التفاصيل أكثر . و أنا أستعيد وجهاً صبوحاً غائباً منذ زمنٍ بمؤازرة خيالٍ واسعٍ .
بدا التطابق مماثلاً ، و التجسيد كان شبيهاً جداً .
وجهٌ عليَّ جديدٌ ، لكنه مستأنسٌ ، تراءى لي كأنه اعتياديٌ ، و في عداد المألوف مندرجٌ .
ابتسامةٌ عريضةٌ ارتسمت على شفتيَّ ، و اندفعت من داخلي موجةٌ عارمةٌ من المشاعر الدفيئة الهاطلة بوابلٍ غزيرٍ من الوداعة و اللطف و الدماثة .
نفحاتٌ هائلةٌ من الانعاش النفسيِّ ، اقتنصتها من واحة وجهها الغنية بمعايير الجمال و الرقة و خفة الدم ، قبل أن تتآمر عليَّ بالانصراف .
تركتني وحيداً بعد أن أغرقتني في وساوس الحيرة و الخلط بين الماضي و الحاضر .
وظَّفت وجهها لقلب الحاضر ماضياً ، و إلغاء الواقع على حساب الخيال ، و إن كانت ماثلةً أمامي بوجودٍ فعليٍّ .
نجحت بربط برهةٍ من الوقت الحاضر بسياق الزمن الماضي . بحيث باتت اللحظات العتيقة محوريةً ، و إن تداخَلَ الزمنان معاً و تشابكا في النهاية .
انصرافها لم يكن انتحاراً لتلك اللحظات الممتعة ، بل إن ومضة سحنتها جعلتني أقضي النهار كله على قيد حلم الزمن الآبق .
ظلت عيناي غارقتين بتفاصيل وجهٍ ودودٍ وديعٍ قابعٍ في أقبية الذاكرة منذ أعوامٍ ، و بدأ يحوم حولي بكل الأرجاء .
و تفجَّرت لهفةٌ مجنونةٌ ، تحاول ابتلاع المسافات الطويلة بشراهةٍ ، لسحب الزمن خلفاً .
القلب أمسى مرهقاً بحنينٍ صادقٍ ، و ضاق به ذرعاً . فما كان ليهدأ إلا بعناق الغائب البعيد .
وجع ودي لها رائعٌ ، و ألم أشواقي إليها مستأنسٌ ، و حنيني لها بعد ملء القلب فائضٌ متدفقٌ .
الإحساس بفقد من تحب قاسٍ . و الأقسى عندما يكون المغيث للاستنجاد هو الغياب ، و الذهن من التفكير بها لا يحيد .
و الأشد حيرةً حينما تكون الروح المنهكة بلهفة العناق على يقينٍ ، إن اللقاء بالغائب البعيد لا يكون بإبداع العقل ، و لا باختلاق الذكاء ، و لا بماردٍ يخرج من المصباح السحريِّ بمجرد لمسه لتلبية الرغبة . بل مرهونٌ بالحالة النفسية للظروف ، أو طبقاً لمزاج المجهول .
غيابها يتنامى في حنايا القلب إلى حضورٍ دائمٍ ، و يجثم على الصدر ، فيكاد يكتم الأنفاس .
إتيانها عصيٌّ ، و مجيؤها عنيدٌ . و القلب بوهج صفيح الشوق الساخن محترقٌ .
مؤلمٌ أن تحتسي نوبات الحنين من كأس الفراق ، و أنت تحاول لملمة أشلاء الصبر المبعثرة منعاً لتراخي الزمن في سيره ، أو احتضار الوقت .
إنه اللايقين المزعج عندما يكون موعد تحقيق المبتغى غامضاً تحت رحمة الإجهاض ، و الفرج يحتفظ بحق اللقاء خلطاً بين الممكن و المستحيل ، فيتراكم الكدر في أقبية الصبر الذي يبلغ مرحلة الاحتضار ، لو لم تسعفه جرعة مصلٍ من الأمل .
و في ذات السياق ، لكن خارج نطاق العواطف و الاشتياق ، يقول الفيلسوف اليونانيُّ أرسطو : “ الذكريات و سيلةٌ لتخيل المستقبل ، و ليست مجرد تدويناتٍ لحياتنا في الماضي ”
أي للذكريات منفعةٌ لبناء المستقبل ، كونها تعتبر منهلاً لإمدادات البيانات و المعطيات التي تدعم التأمل و التفكير في دراسة الخطط و المشاريع المستقبلية ، من خلال التدرج الذهنيِّ بين الماضي و الحاضر لصنع الإبداع للأيام اللاحقة .
و لكن على النقيض من التقوقع و الانعزالية ، و هيمنة الماضي على العقول و التزمت الفكريِّ ، و تقديس الإرث السلطويِّ .
و الأخطر شيوع ذهنية التحريم باسم الأديان و الأعراف البالية ، و التفسيرات السلفية في ظل اختفاء الحواجز و الحدود الجامدة بين الحضارات ، و نحن قطعنا شوطاً أولياً من الألفية الثالثة .
و يا لهول تلك العقول العقيمة !!!!!!