يأتي انعقاد المؤتمر الرابع عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني-العراق «ح. د. ك.» في مرحلة بالغة التعقيد على صعيد التداخلات والاصطفافات محلياً وإقليمياً ودولياً.
ففي العراق تسود أجواء الترقب، رغم التوافق الأخير الذي تم بين القوى السياسية، وهو التوافق الذي أسفر عن انتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل الحكومة التي تواجه تحديات كبرى في ميادين الحوار الوطني، والأمن الداخلي، ومكافحة الفساد، ووضع حد للتدخلات الإقليمية التي تستخدم العراق ساحة لتصفية الحسابات. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى التدخل الإيراني الذي لا يقتصر على القصف المتكرر لمواقع الأحزاب الكردية-الإيرانية الموجودة ضمن حدود إقليم كردستان العراق، بل يشمل قصف مواقع خاصة بالحكومة والمواطنين في الإقليم. كما أن تركيا تقصف هي الأخرى من ناحيتها مواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني «ب. ك. ك»، غير أن هذا القصف يطال في الكثير من الأحيان المدنيين الكرد العراقيين في القرى القريبة من مناطق القصف. إلا أن التدخل الإيراني شمولي متغلغل في الدولة والمجتمع العراقيين من خلال أذرعه العسكرية التي تستخدم لضبط التحالفات والتوجهات، وتتمثل هذه الأذرع في ميليشيات الحشد الشعبي الإيرانية الهوى وواجهاتها السياسية، وهي الميليشيات المرتبطة عضوياً بالمشروع الإيراني في العراق والمنطقة.
وعلى صعيد آخر، تفرض الانتفاضة العارمة التي تشهدها مختلف المناطق الإيرانية منذ مقتل الشابة زينا/مهسا أميني ابنة 22 ربيعاً من قبل ما تُعرف زوراً بـ «الشرطة الأخلاقية» تحدياً كبيراً يواجهه إقليم كردستان العراق، و«ح. د. ك» تحديداً كونه الحزب الأكبر والأكثر جماهيرية بين الكرد، وله علاقات تاريخية قديمة مع الأحزاب الكردية في كردستان إيران التي تتعرض مواقعها في الإقليم بصورة مستمرة للقصف من قبل القوات الإيرانية. وذلك بهدف خلط الأوراق، وتوجيه أنظار الإيرانيين المنتفضين ضد نظام «ولي الفقيه» نحو مخاطر مزعومة في الداخل الإيراني، أو في الجوار الإقليمي، وحتى اتهام القوى الدولية بأنها هي التي تحرض الإيرانيين على الاحتجاج والتظاهر، هذا في حين أن المعطيات كلها تؤكد أن ما يحصل هو نتيجة لعقود من سياسات القمع والتنكيل اعتمدتها، وتعتمدها، أجهزة الحكم التوليتاري ضد مختلف المكونات المجتمعية والقوى السياسية الإيرانية.
وفي السياق ذاته، تضع تفاعلات الحرب الروسية على أوكرانيا الاقتصادية منها والسياسية، واحتمالات اتساع نطاقها، والخشية من استخدام الأسلحة النووية بعد التهديدات المستمرة من جانب مسؤولين روس كبار، العراق وإقليم كردستان العراق على وجه التخصيص، في عين العاصفة؛ وذلك لاعتبارات جيوسياسية بالغة الدقة والأهمية لكل من وروسيا وإيران من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الغربية، وحتى تركيا رغم موقفها البين بيني من جهة أخرى.
لقد تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني في 16 آب (أغسطس) 1946، بقيادة ملا مصطفى بارزاني الذي تميّز بدوره كزعيم للشعب الكردي في جميع أنحاء كردستان، وذلك بغض النظر عن الحدود التي رسمتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى 1914-1918. وهي الحدود التي لم يعترف بها الكرد لأنها قسمت بلادهم ومجتمعهم، بل وأسرهم؛ لذلك قاموا بالاحتجاجات والانتفاضات والثورات في أكثر من مكان، وقد تعرضوا للقمع الوحشي من جانب السلطات الحاكمة في كل دولة.
وكانت ثورات البارزانيين التي اتسمت باستمراريتها رغم كل أساليب القمع الوحشي التي مورست بهدف وأدها. ولكن الطابع القومي التي تميّزت بها ثورات البارزانيين لم يمنعهم من المحافظة على أفضل العلاقات مع المكونات المجتمعية الأخرى المحيطة بهم بغض النظر عن انتماءاتها الدينية والقومية والمذهبية. والجدير بالذكر هنا هو أن البارزانيين أنفسهم التزموا في حياتهم الخاصة بالإسلام، واتبعوا الطريقة النقشبندية.
وفي سياق توجهه القومي العام، توجه الزعيم الكردي ملا مصطفى إلى مهاباد، ليكون إلى جانب قاضي محمد وهو يعلن عن تأسيس الدولة الكردية ذات الحكم الذاتي في ميدان جار جرا بمهاباد في 22- كانون الثاني (يناير) 1946، وهو العام الذي تأسس فيه «ح. د. ك» وولد زعيمه الحالي مسعود بارزاني.
لم تستمر جمهورية مهاباد أكثر من أحد عشر شهراً، وذلك بفعل توافق المصالح بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة الأمريكية). وبعد القضاء على الدولة الفتية واعدام قادتها، توجه بارزاني الأب مع قواته إلى الاتحاد السوفياتي حيث استمر بقاؤه هناك إلى عام 1958، وهو العام الذي كان فيه انقلاب عبد الكريم القاسم على الحكم الملكي، الذي رحب بعودة بارزاني ليساهم في حل القضية الكردية في العراق بصورة سلمية، ويكون شريكاً في الوطن والحكم.
وفي طريق عودته إلى العراق، التقى بارزاني الأب في القاهرة مع الزعيم المصري-العربي جمال عبد الناصر، وهو اللقاء الذي جاء منسجماً مع العلاقات الأخوية بين الشعبين العربي والكردي. ولكن الذي حصل لاحقاً، هو أن البعثيين والقوميين العراقيين ممن كانوا على خلاف مع عبد الناصر، ومع التوجه الوطني لعبد الكريم قاسم، ضغطوا على الأخير للتراجع عن وعوده، فساءت العلاقات بين «ح. د. ك» والسلطات في بغداد. وكانت ثورة أيلول 1961 التي استمرت إلى عام 1970، وهو العام الذي تم التوقيع فيه على اتفاقية السلام بين مصطفى بارزاني وصدام حسين الذي كان في ذلك الحين نائباً للرئيس أحمد حسن البكر، ولكنه في الواقع العملي كان الحاكم الفعلي للعراق.
إلا أن تلك الاتفاقية لم تجد طريقها إلى التطبيق المتفق عليه، بل كانت خطوة تكتيكية من جانب صدام حسين لكسب الوقت، وتهيئة الأجواء لإيجاد بدائل كردية لـ «ح. د. ك» تابعة لحكومة بغداد. كما حاولت المخابرات العراقية اغتيال بارزاني الأب عن طريق وفد من رجال الدين. واندلعت المعارك مجدداً بين الجيش العراقي والبيشمركه عام 1974، واستمرت إلى آذار (مارس) 1975، إذ توقفت بعد اتفاقية الجزائر بين صدام حسين وشاه إيران. ثم عادت لتندلع من جديد في ايار (مايو) 1976؛ وكانت مجزرة حلبجة 1988 وعمليات الأنفال التي اسفرت عن تدمير آلاف القرى والبلدات في إقليم كردستان، وقتل آلاف الأكراد، بينهم نحو 6000 من البارزايين.
بعدد وفاة مصطفى بارزاني عام 1979، ساد الاعتقاد بأن الكرد قد فقدوا الزعامة التاريخية الجامعة، وأن المرحلة باتت مرحلة الزعامة الحزبية؛ ولكن الذي حصل كان هو العكس. إذا أثبت مسعود بارزاني الرئيس الحالي لـ «ح. د. ك»، وبجدارة، قدراته القيادية في المجالين العسكري والسياسي، وتمكن من تجاوز واقع الخلافات الحزبية بعد التجربة المريرة التي كانت أثناء قتال الأشقاء بين «ح. د. ك» والاتحاد الوطني الكردستاني خلال أعوام 1994- 1997. وكان من ضحايا ذلك القتال آلاف الشباب من الجانبين، الأمر الذي أثار الكثير من الاستياء والامتعاض والإحباط بين الكرد وأصدقائهم في كل مكان، وقد تعهد مسعود بارزاني على إثر ذلك الاقتتال الأليم بصورة علنية، وهذا مما سمعته منه شخصياً في مناسبات عدة، بعدم العودة إلى القتال لتصفية الحسابات بين الكرد مهما كانت الأسباب، وظل ملتزماً بهذا المبدأ رغم الكثير من الضغوط والاستفزازات، خاصة من جانب حزب العمال الكردستان «ب. ك. ك» الذي وجد في الحزب الديمقراطي الكردستاني الجدار المنيع الذي يحول دون تمكّنه من تحقيق مشاريع مشغّليه.
مسعود بارزاني هو اليوم الزعيم الأقدم على مستوى المنطقة؛ وهو يعد من آخر الزعامات الكردية التاريخية. استطاع بحكمته وحنكته وصبره وتواضعه بناء العلاقات مع مختلف الأطراف المتصارعة في المنطقة؛ وله علاقات متميزة مع المكونات المجتمعية والسياسية العراقية. وهو اليوم يمثل مرجعية سياسية وطنية عراقية إلى جانب كونه مرجعية سياسية مجتمعية يحترمها الكرد في كل مكان. وفي الوقت ذاته، لديه علاقات وثيقة مع الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، وهي علاقات تقوم على الاحترام المتبادل. كما يحظى باحترام وتقدير في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
وقد تمكن «ح. د. ك» بفضل اعتداله وحكمته من أن يصبح الحزب العراقي الأكبر من جهة عدد مقاعده في مجلس النواب. وهو حزب عريق لا يمكن تجاوزه أو تجاهل دوره على المستوى العراقي والكردستاني. وبفضل هذا الحزب وتوجيهات رئيسه، أصبح إقليم كردستان واحة وئام وتعايش بين مختلف المكونات المجتمعية العراقية وملاذاً آمناً لكافة العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية؛ هذا رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت على الإقليم نتيجة السياسات التضييقية التي اعتمدتها حكومات المركز، وتمثلت في قطع الميزانية، وعرقلة الوصول إلى حل منطقي موضوعي لموضوع قانون النفط والغاز، وذلك بناء على اعتبارات سياسية مصدرها الضعغوط الإقليمية.
تنبثق أهمية المؤتمر الرابع عشر لـ «ح. د. ك» من كونه خطوة مطلوبة في طريق تجديد القيادة بكوادر شابة، ومراجعة السياسات، والاستعداد لمواجهة التحديات، في مرحلة بالغة التعقيد يمرّ بها العراق والكرد والعالم بأسره.
وكان لافتاً ما ورد في خطاب رئيس الحزب مسعود بارزاني، بعد أن أجمع أعضاء المؤتمر على تجديد ثقتهم الكاملة بزعامته، حول رغبته في مغادرة موقعه في المؤتمر القادم للحزب؛ وذلك لتجاوز القاعدة المتعارف عليها راهناً في أحزاب المنطقة، وفي العديد من دول العالم، وهي القاعدة التي تنص على أن الزعيم يغادر موقعه مع الموت؛ وهذا فحواه أنه يعقد الآمال الكبار على دور الجيل الشاب في ضمان مستقبل أفضل للكرد والعراقيين بصورة عامة.
*كاتب وأكاديمي سوري