حين اعتلت جوقة سراج مسرح أمّ الفحم، لم يكن الجمهور أمام عرض موسيقي اعتيادي، بل أمام تجربة تتجاوز حدود الصوت والكلمة، تجربة ارتبطت بالمدينة نفسها، بروحها وذاكرتها، وبحسها الداخلي الذي لم يعرف صخب الحياة اليومية فقط، بل بحث عن نبض جديد، عن دفء يذكّر بأن الجمال لا يختفي. من اللحظة الأولى، بدا واضحًا أن هذه الأمسية ليست استماعًا فقط، بل طقسًا جماعيًا حقيقيًا، حيث كل نغمة وكل صمت محسوب بدقة ليصنع تجربة كلية، تضيف للحاضر والمعنى معًا.

أصوات تتحد لتصبح نبضًا واحدًا
ما يميز جوقة سراج ليس مجرد تعدد الأصوات، بل تلاحمها بحيث يصبح الصوت جماعة واحدة تنبض كالنبض الداخلي للمدينة. في كل لحظة، كل عضو يعرف دوره، لكن لا أحد يطغى على الآخر، ولا صوت يختفي في الخلفية. النغمة الأولى كانت كإشارة، والصمت الذي سبقها كتحية، ثم جاء الصوت مجددًا ليأخذ المكان كله، ليملأه بالحياة، ويضع المستمعين في حالة يقظة وجدانية متواصلة.
هذا الانسجام الصوتي لا يُختصر في التقنية؛ بل هو وعي كامل باللحظة، بالمكان، وبالجمهور، بحيث يبدو كل صوت امتدادًا للمدينة نفسها، وكل لحن دعوة للمشاركة في رحلة جماعية.

التراث ينبض بالحياة
جوقة سراج لا تقدّم الأغاني الجبلية والفلكلورية بوصفها محفوظات للزمن القديم، بل تُعيدها للحياة في لحظة حالية، تجعل الحاضر يشارك في استعادة الماضي، ويكتشف معانيه الجديدة. كل مقام، كل كلمة، كل وقفة صمت كانت محفّزًا للذاكرة الجماعية، تذكر المستمع بما هو مألوف وعزيز، وفي الوقت نفسه تمنحه اكتشافًا جديدًا لتلك الأصوات.
الأغاني لم تُقدم كقطع منفصلة، بل كقصة متدفقة، سلسة، تحافظ على أصالتها وتعيد تشكيلها وفق روح الجمهور، لتصبح رحلة مشتركة بين الجوقة والحاضرين، تلامس القلب قبل أن تصل للأذن
طقس جماعي… المدينة تشارك في التجربة
ما حدث في أمّ الفحم كان أكثر من حفلة؛ كان طقسًا جماعيًا. الجمهور لم يكتف بالجلوس والاستماع، بل أصبح جزءًا من النسيج الصوتي نفسه. صمت القاعة قبل بدء العرض، الانتباه العميق، تفاعل الوجوه مع كل صوت، كل نغمة، كل لحظة صمت، أظهر أن الأداء لم يكن مجرد عرض، بل تجربة تتخطى حدود المسرح.
أصوات سراج حولت القاعة إلى فضاء حيّ، يتنفس، يتحرك، ويتفاعل مع كل لحظة موسيقية. كل مقطع كان يشبه دعوة إلى التواصل مع المدينة نفسها، مع تفاصيلها، مع ذاكرتها الداخلية التي يبعثها الفن من جديد.

جماليات الأداء… بين التقنية والروح
الاحترافية في سراج واضحة في كل تفصيل
توزيع الأصوات: متقن، يخلق شعورًا بالانسجام المطلق دون أي شعور بالجمود.
الانتقالات بين المقامات: سلسة ومتقنة، تجعل الجمهور ينسجم مع كل لحظة دون أن يشعر بالجهد.
التواصل بين الأعضاء: يظهر الاحترام والدفء في كل حركة ونظرة، ويضيف بعدًا إنسانيًا للأداء.
هنا، الفن ليس مجرد إتقان صوتي، بل رسالة صادقة تنبض بالمعنى، ويصبح كل أداء من سراج مناسبة لإعادة ترتيب الروح الداخلية لكل حاضر.
الأغنية كجسر والجوقة كمرشد
كل أغنية كانت أكثر من نغمة، أكثر من مقام؛ كانت جسرًا بين الجوقة وأهل أمّ الفحم، بين الذكريات والخبرات الحاضرة، بين الصمت والفرح، بين الفرد والجماعة. كان الجمهور يشارك ليس فقط بالاستماع، بل بالشعور، بالتفاعل، بالوجود الكامل. في هذه اللحظة، لم يكن الفن مجرد صوت جميل، بل إحياء للمدينة بروحها الداخلية، وتذكير بأن الموسيقى قادرة على إعادة ترتيب القلوب.
الاحتفاء بسراج ليس لمجرد الأداء الرائع، بل لأنهم يقدّمون الفن بوصفه حياة، وليس ترفًا. أمسيّة أمّ الفحم كانت تذكيرًا بأن المدينة، مثل أي مجتمع حيّ، تحتاج إلى الفن ليعيد إليها توازنها، لتستعيد لحظاتها الجميلة، لتشعر بالفرح والدهشة والطمأنينة. كل نغمة قدمتها سراج كانت شعلة صغيرة تنير المدينة من الداخل، وتجعل الحضور يشعر بأنه جزء من شيء أكبر، شيء حيّ، شيء لا يزول.
في تلك الليلة، أعادت جوقة سراج لأمّ الفحم رونقها الذي يذهب غالبًا في صخب الأيام، وأثبتت مرة أخرى أن الموسيقى ليست مجرد أصوات، بل حياة، وطقس جماعي، ورسالة صادقة تنبض بالإنسانية والجمال.
لمى أبولطيفة .




