التحدي الأكبر الذي يواجه شعوب البلدان المتعددة الاقوام والديانات والمذاهب التي اندلعت فيها الثورات الربيعية منذ نحو عقد من الزمن كان ومازال إيجاد حلول توافقية عادلة وسلمية لقضاياها القومية العالقة ، الى جانب المسائل الاقتصادية ،والاجتماعية ، والنظام السياسي ، ومن المعلوم ان الدول المعنية بذلك هي ( سوريا – تونس – اليمن – مصر – ليبيا إضافة الى التي حدثت فيها الموجات الجديدة من الانتفاضات والثورات مثل : السودان والجزائر والعراق ولبنان ) ولم تحقق أي منها انجاز اهداف ثوراتها بشكل كامل ، ومازالت غالبيتها تمر بمراحل انتقالية بانتظار توفر شروط الحلول النهائية الذاتية منها بخصوص صياغة المشروع الوطني ، وإعادة البناء التنظيمي ، وتحسين ظروف المواجهة ، أو الموضوعية المتعلقة بالعوامل الإقليمية والدولية .
ان القوى والجماعات السياسية في هذه البلدان – وأخص بالذكر سوريا – المعارضة منها والموالية التي تتجاهل ضرورات مواجهة تلك القضايا الوطنية بصدر رحب ، وقبول وادراك ، وبمزيد من التفهم والمسؤولية ، وتحاول القفز من فوقها بذرائع وحجج مختلفة من بينها العبارات المنمقة المستندة الى العموميات ومن دون تحديد ، التي استخدمتها المنظومات الأمنية الاستبدادية الحاكمة منذ نحو مائة عام من قبيل ( من دون تمييز بسبب الجنس والعرق … أو المساواة في الحقوق والواجبات … أو المواطنة الكاملة أؤ أو الخ ) وكل ذلك لم يكن الا حبرا على ورق فحسب بل خبأ تحت ظلاله مخططات عنصرية لامحاء وجود ومعالم تلك القوميات بتغيير التركيب الديموغرافي لمناطقها ، وتهجيرها ، والمزيد من الإجراءات القانونية لتعريبها .
جيلنا يتذكر ذرائع الأنظمة الدكتاتورية الشمولية منذ تسلط البعث وحكم الأسد الاب والابن في مجال تجاهل وتاجيل حل القضية الكردية بذريعة ( مواجهة الامبريالية والصهيونية وكل شيء من أجل معركة تحرير الأرض المحتلة ، واحيانا باسم الحفاظ على وحدة البلاد وعدم السماح لقيام إسرائيل ثانية ) والاجيال الكردية التي سبقتنا كانت ضحية ذرائع دينية باسم الإسلام والخلافة ، أما الآن فنحن أمام ذرائع مستحدثة من جانب أطياف المعارضة مفادها تريثوا أيها الكرد السورييون لحين تحقيق السلام ، واستلام الحكم ، لأننا لانمثل الشعب السوري ولسنا مخولون للاستجابة لمطالبكم .
وهنا تنكشف الخدعة الكبرى المحبوكة باتقان ولكن لسوء حظ هؤلاء باتت مكشوفة أولا لم يطلب منكم الكرد السورييون أن تحلوا قضيتهم في وضع لاتسيطرون على مقاليد الحكم ، والازمة لم تحل بعد ، وانكم لاتتمتعون بالشرعية الوطنية ، ولاتمثلون السوريين ، ولن تحل القضية الا في ظل النظام الديموقراطي ، كل ذلك مفهوم وحقيقي ، كل مايطالب به الكرد هو موقف سياسي يجد مكانه في برامجكم ، ومشاريعكم ، فان كنتم ( وهنا السؤال موجه الى كل التيارات والمجموعات التي تطمح استلام السلطة بالشراكة مع سلطة النظام او باشكال أخرى ) تطرحون قضايا تمس حاضر ومستقبل ومصير البلاد فلماذا تستثنون القضية الكردية ؟ أليست هي جزء من القضايا الوطنية العامة ؟ .
واذا كنتم لاتعتبرونها فرعا من اصل وجزء من كل ( بالمناسبة هذا الكل عبارة عن أجزاء على الصعيد الوطني ) ، وبالتالي تتجاهلونها ، وترحلونها الى عالم المجهول ، فانكم بذلك تنأون بانفسكم عن هذه القضية الوطنية ، وتفصلون – من حيث تدرون او لاتدرون – القضية الكردية عن القضايا الوطنية والديموقراطية الأخرى ، وعندما يبحث الكرد عن طرق وخيارات أخرى لحل قضيتهم وضمن الاطار الوطني السوري الواحد لا تلبثون ان توجهوا سهامكم للكرد واتهامهم بالانفصالية والتعامل مع الأجنبي .
قضايا القوميات وثورات الربيع
من الملاحظ وكما اشرنا سابقا أن جميع البلدان التي اندلعت فيها الثورات المعروفة بالربيعية هي اما متعددة القوميات ، أوالأديان ، أوالمذاهب ، وان أحد الأسباب الرئيسية للموجة الثورية الهادفة للتغيير هي نشدان الحرية وانتزاع الكرامة كما تجلت في شعاراتها وأهدافها ، الى جانب الأهداف الاقتصادية والاجتماعية واشكال الأنظمة السياسية الديموقراطية المنشودة ، التي لايمكن فصلها عن حرية وكرامة المواطن بغض النظر عن انتمائاته وطموحاته الفردية والجماعية ، فهناك حرية وكرامة الفرد – المواطن ، وهناك حرية وكرامة الجماعات وخصوصا القومية منها وبالأخص التي تتوفر فيها علائم وشروط الشعب ، ومن السكان الأصليين المحرومين من الحقوق الأساسية وفي المقدمة حق تقرير المصير في الاطر الوطنية وعلى قاعدة العيش المشترك ، مثل الكرد ، والتركمان ، والكلدو – آشور والامازيغ ، والارمن ، وغيرهم .
لاشك ان القوى الثورية التي قادت وواكبت هذه الانتفاضات وخصوصا في سوريا في المراحل الأولى ، كانت أكثر واقعية وشعورا بالمسؤولية تجاه التعددية والتنوع ،والموقف من المكونات خارج الأغلبية الحاكمة وهي العربية في جميع تلك البلدان ، بل وأصدرت وثائق تعترف فيها بوجود وحقوق الاخر القومي المختلف وتحديدا الكرد ولكن من دون اختيار صيغة واطار الحل المطلوب ، ومن دون الالتزام بها بشكل حاسم ، وكل ذلك لم يمنع ممثلي هذه المكونات من المشاركة الفعلية في الثورات المندلعة ، وتقديم التضحيات من اجل انتصارها .
فمن حيث المبدأ وعلى ارض الواقع من مصلحة الفئات المغدورة ، والمهمشة ، والمحرومة من الحقوق قومية كانت أم دينية ، ام مذهبية ، ان يتم التغيير الديموقراطي ، ويزال الاستبداد ، وتعم المساواة ، وتستعاد الحرية والكرامة ، لذلك فان هذه الفئات كانت ومازالت الأكثر معنية بانتصار ثورات الربيع ، وشاركت الغالبية فيها ، وقدمت التضحيات في سبيلها ، ففي الثورة المصرية شارك الاقباط ، وفي تونس شارك النشطاء الامازيغ ، وفي اليمن شارك الحوثييون بالبداية قبل ان تحولهم مرجعيتهم المذهبية الى آلة بايدي نظام طهران تتصدر الثورة المضادة ، وفي ليبيا شارك الامازيغ والطوارق بكل قوة في الثورة على الاستبداد ، وفي الجزائر كانت مشاركة الامازيغ واضحة من رفع اعلامهم بالتظاهرات قبل منعها من جانب الطغمة العسكرية الحاكمة خلف الستار ، وفي العراق تصدرت الاحتجاجات غالبية المكونات العراقية الكردية والتركمانية والمسيحية والازيدية والشيعية والسنية .
افتقرت تلك التجارب في مختلف ساحات ثورات الربيع والى يومنا هذا ، الى التوثيق ، والتقييم ، والمتابعة الموضوعية ، لذلك نشهد مدى التناقض في التصريحات والكتابات حولها ، والتي لاتخرج من اطر الدوافع الذاتية ، والامزجة ، وحتى النزعات الكيدية ، والمواقف الشوفينية الفردية المسبقة تجاه هذا المكون اوذاك ، كما ان بصمات الأنظمة المقبورة او المتهالكة ( من حيث الخطاب والثقافة ) مازالت بادية في بعض العقول ، ولن تكون مدة العشرة أعوام كافية لازالتها ، وترسيخ البديل الديموقراطي الإنساني .
من جهة أخرى فان من قاموا بتلك الثورات او شاركوا فيها من المكونات السائدة والغالبة من حيث العدد ، وهو المكون العربي في كل تلك البلدان ، فان قواها السياسية الإسلامية والقومية لم تحسم امرها بشكل كامل حول مظلوميات المكونات الأقل عددا أو المهمشة ، من السكان الأصليين ، ووجودها ، وحقوقها المشروعة من قومية ،وديموقراطية ، واجتماعية ، وثقافية ، بل ان بعض تياراتها مازالت تحمل ثقافة النظم المنهارة الشوفينية الاستعلائية حول انكار الوجود ، ورفض الحقوق .
الكرد في الثورة السورية
منذ ان نشأت الحركة الوطنية الكردية السورية بتعبيراتها المختلفة ومنذ عهد الانتداب الفرنسي مرورا بمرحلة مابعد الاستقلال كانت من أهدافها الرئيسية تحقيق الديموقراطية والمساواة ، ومواجهة الدكتاتورية والاستبداد ، من خلال نضالها السياسي السلمي ، وتعرض بسبب ذلك مناضلوها وقادتها منذ عقود الى الاعتقالات ، والملاحقات ، واسقاط الجنسية ، والحرمان من الحقوق المدنية ( حرمت من هذه الحقوق عام ١٩٦٩ بقرار من عضو القيادة القطرية ، وزير الداخلية ، نائب الحاكم العرفي محمد عيد عشاوي ) وتقديمهم الى المحاكم العسكرية ، ومحكمة امن الدولة العليا بدمشق ( وكنت واحدا من الذين حكموا أمامها باقسى العقوبات عام ١٩٦٨ ) .
قبل اندلاع الانتفاضة الثورية السورية بنحو سبعة أعوام ( آذار ٢٠٠٤ ) ثارت الجماهير الكردية الوطنية المستقلة بالقامشلي ضد نظام الاستبداد ، في هبة دفاعية مقاومة سلمية وقدمت اعدادا من الشهداء ، ولولا هزالة الأحزاب التقليدية الكردية والسورية عموما لكان بالإمكان ان تتطور تلك الهبة الشجاعة الى انتفاضة عارمة كردية – سورية وطنية شاملة ، وفي موقف انتهازي ملتبس ، تعاونت قيادات مجموع الأحزاب الكردية مع الخلية الأمنية المشكلة من عدد من جنرالات المخابرات في القامشلي من ( محمد منصورة – بختيار – المملوك وآخرين ) باشراف ماهر الأسد الذي كان يتمركز بغرفة عمليات بدير الزور ، في وأد الهبة الدفاعية التي وصلت مختلف المناطق الكردية في عفرين وكوباني وكذلك أماكن التواجد الكردي في حلب ودمشق ، وتقاطر بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة زورا على القامشلي مبدين استعدادهم للتوسط بين الثائرين والنظام ؟؟!! .
وبسبب البيئة الكردية المعادية للنظام تعرض الشيخ المتنور معشوق الخزنوي للاغتيال عام ٢٠٠٥ ، ومنذ الأيام الأولى لاندلاع الانتفاضة الثورية السورية ، شهدت مدن وبلدات المناطق الكردية مثل القامشلي ، وديريك ، وعامودا ، والدرباسية ، وراس العين ، وكوباني ، وعفرين ، والحسكة اقبالا شبابيا واسعا على المشاركة في التظاهرات الاحتجاجية ، وشكل الشباب الكرد تنسيقياتهم التي كانت تقود المظاهرات بغياب كامل للأحزاب التقليدية الكردية ، كما تحرك الشباب الكرد في حلب والعاصمة دمشق ، وقاموا جميعا بنسج العلاقات مع تنسيقيات المناطق السورية الأخرى ، والتشاور حول شؤون الثورة وشعارات التظاهرات ، والبيانات وما الى ذلك ، وعندما تسللت الأحزاب الإسلامية والقومية وبعض التيارات اليسارية الى المعارضة والتظاهرات عملت ( تماما كما عملت أجهزة النظام ) على اسكات أصوات الشباب أصحاب الثورة الحقيقيين ، ومضايقتهم ، وابعادهم ، وحصل بالمناطق الكردية الامر نفسه حيث عملت الأحزاب على التخلص من الشباب المنتفضين ، والوطنيين المستقلين ، بل تم تنفيذ الوسائل العنفية وتصفية البعض واختطاف البعض الاخر على ايدي مسلحي جماعات ب ك ك .
ليست هناك مشاركة كاملة وغير منقوصة من أي مكون سوري في الثورة السورية ، وفي حين لن نغفل ابتعاد الناس والكثير من الثوار عن المشهد بسبب سيطرة الإسلام السياسي على مقاليد الثورة والمعارضة ، فان استمرارية المشاركة الراهنة تضم نخبا عديدة ومن كل المكونات والطبقات والفئات لان فكرة معارضة النظام ستستمر حتى اسقاطه وبكافة السبل وقد تظهر ردات مضادة ، وصفقات ، من جانب بعض اطراف المعارضة الرسمية او شلل الوافدين من أوساط النظام ، ولكن التناقض بين الشعب السوري من جهة ونظام الاستبداد والقوى المحتلة المناصرة له سيتعمق يوما بعد يوم ولابد ان يتلمس السورييون اشكالا مبتكرة أخرى من وسائل النضال للانتصار على النظام عاجلا ام آجلا .
كما لابد ان ان يتوصل السورييون الوطنييون الى صيغ توافقية حول قضاياهم المشتركة وخصوصا القضية الكردية ، والمسائل الأخرى المتعلقة بالمصير والمستقبل ، وان لاتذهب الدماء الذكية التي اريقت في سبيل التغيير الديموقراطي هباء ، وان لايبقى المجرمون بمأمن ، وان تتحقق العدالة ، ومهما حصل فان الثورة السورية المغدورة ثورة كل مكونات الشعب السوري ، ثورة مئات الالاف من الشهداء ، التي غدر بها القريب والبعيد ، تبقى من انبل ظواهر التاريخ السوري القديم والحديث .