روماف – رأي
مشاهد التضييق على الكرد وقمع حرياتهم الدينية والثقافية، ليست جديدة، فمنذ اللحظة الأولى لاحتلال مدينة عفرين، بعد ساعات من إعلان الجيش التُركي وفصائل “الجيش الوطني السوري” السيطرة على المدينة، اتّضحت الصورة؛ عفرين لن ترى أي نوروز بعد الآن.
انتهى الاحتفال بعيد النوروز في مدينة جندريس- عفرين بمقتل 4 مدنيين كرد وإصابة آخرين، ذنبهم أنهم كانوا يشعلون النار لمناسبة حلول العيد قرب الخيمة التي لجأوا إليها بعدما دمر الزلزال بيوتهم. فما كان من عناصر تابعين لفصيل “جيش الشرقيّة”، أحد فصائل الجيش الوطني السوري، إلا أن أطلقوا النار عليهم بلا رحمة.
تظاهر آلاف الكرد في مدينة جنديرس أثناء تشييعهم جثامين الضحايا، ورفعوا شعارات تطالب بطرد فصائل الجيش الوطني من المدينة، وتدين الجرائم والانتهاكات التي ترتكب بحقّ سكان المنطقة الكردية مذ سيطرت عليها “فصائل الجيش الوطني” وتركيا عام 2018.
مشاهد التضييق على الكرد وقمع حرياتهم الدينية والثقافية، ليست جديدة، فمنذ اللحظة الأولى لاحتلال مدينة عفرين، بعد ساعات من إعلان الجيش التُركي وفصائل “الجيش الوطني السوري” السيطرة على المدينة، اتّضحت الصورة؛ عفرين لن ترى أي نوروز بعد الآن.
فكانت البداية مع انتشار مشاهد مصوّرة تظهر مقاتلين داخل المدينة، وهم يحطّمون تمثال كاوا الحداد الشخصيّة الرمزيّة في حكايا النوروز الكردية، في مشاهد أعادت إلى الذاكرة ما فعله تنظيم “داعش”، حين حطّم ودمّر التماثيل الأثرية وشواهد القبور في الأماكن التي احتلّها.
تم التعامل مع عفرين بوصفها مدينة يقطنها “كفّار ومارقون”، وحملت الحادثة أبعاداً دينيّة وتاريخيّة، إذ تباهى الإعلام التركي بالإنجاز، سبقها استخدام أردوغان التين والزّيتون في مقدّمة حربه على المدينة، كما صدام حسين الذي استخدم الأنفال في مجازر الإبادة الجماعيّة التي ارتكبها بحق الكرد العراقيين.
انتهى الاحتفال بعيد النوروز في مدينة جندريس- عفرين بمقتل 4 مدنيين كرد وإصابة آخرين، ذنبهم أنهم كانوا يشعلون النار لمناسبة حلول العيد قرب الخيمة التي لجأوا إليها بعدما دمر الزلزال بيوتهم
تتبع تاريخ ليلة نوروز منذ تولّي حزب البعث السلطة في سوريا، يكشف تاريخاً من الاستهداف المتعمّد، إذ لم يمرّ عيد من دون أن يلقى المحتفلون نصيبهم من العنف.
في 21 آذار/ مارس 1986، فقد سليمان آدي حياته برصاص قوات الحرس الجمهوري التابع للنظام السوري، أثناء تظاهرة توجهت نحو القصر الجمهوري في العاصمة السّورية، دمشق، بعد منع الناس الاحتفال بعيد النوروز.
في 20 آذار 2006، اعتقلت قوات النظام السوري عشرات المحتفلين ليلة النوروز في حلب، وفي 20 آذار 2008، سقط ثلاثة أشخاص في مدينة قامشلو أثناء إشعالهم النّار ليلة رأس السنة على يد النظام السوري.
أمّا في 21 آذار 2009، فاعتقل قوات النظام السوري عشرات المشاركين، وأحيل 14 طفلاً قاصراً من حلب إلى القضاء للمحاكمة، كما أحيل 7 أشخاص من الدرباسية للمحاكمة.
وفي 21 آذار 2010، استهدف النظام السوري المحتفلين بعيد النوروز في مدينة الرقة، سقط خلالها عدد من الضحايا. وفي 20 آذار 2015، سقط عشرات الضحايا بتفجير انتحاري نفذه “داعش”.
وآخر عمليات الاستهداف، كانت ما حصل في جندريس مع مقتل 4 مدنيين من عائلة واحدة، لأنهم احتفلوا بالعيد!
لا يصنّف رأس السنة الكرديّة (النوروز) ضمن الاحتفالات بمعانيها الثقافيّة التراثيّة والميثولوجيّا لدى كرد سوريا، وإن كان ظاهرها كذلك؛ فهذه المناسبة، في الذاكرة الجمعيّة الكردية السورية مرتبطة بشكل وثيق بمواجهة النظام السوري، وقوانينه العنصريّة تجاه الكرد، والتمسُّك بالهوية الكردية التي تتعرض للمحق والنكران، ومواجهة الأفرع الأمنيّة والمخابرات التي كانت تلاحق المحتفلين/المتظاهرين وتعيق احتفالاتهم وتظاهراتهم دون جدوى.
فلطالما كان “النوروز” مناسبة ليذكّر الكردالعالم بحقوقهم المهدورة، فتجوب التظاهرات الشوارع، ويتم شعال الدواليب ورفع الشعارات المناهضة للنظام والقمع. وكانت هذه الاحتجاجات لا تخلو من اشتباك مع الأجهزة الأمنية التي كانت تواجه حجارة المتظاهرين بالرصاص وبالاعتقالات.
عام 2004، في 12 آذار، جال مشجّعو نادي الفتوة سوق مدينة قامشلو، رفعوا شعارات مناهضة للكرد وإقليم كردستان العراق ووجهوا السباب للزعيم الكردي مسعود بارزاني، ورفعوا شعارات تمجّد صدام حسين، وتتغنّى بجرائمه ومجازره بحقّ الكرد، كرّروا الشعارات ذاتها داخل ملعب نادي الجهاد، ما أدّى إلى اشتباك بين المشجعين، وبعدها بلحظات حصل اشتباك بين أهالي مدينة قامشلو والنظام السوري، لتنتفض بعدها المدن الكرديّة في وجه النظام السوري.
رحب النظام السوري بانتفاضة عام 2004، بل دفع الكرد إليها، لوأد أي مسعى أو طموح كردي نحو التحرّك ضدّه مستقبلاً بعد سقوط نظام صدام حسين، وحصول الكرد العراقيين على الفيدراليّة. منذ ذلك الحين، أعاد النظام السوري حساباته تجاه الكرد، وتغيّرت ممارساته، وبات الاستهداف الأمني أكثر وضوحاً، بدأت حملات اعتقال واسعة في المنطقة الكردية، واستهدفت الأفرع الأمنية المحتفلين بعيد النوروز، وأطلقت النار على احتفالاتهم، وكان مصير كل تحرك بسيط هو القمع والتضييق.
تبدو جريمة جنديرس النموذج الحديث للأسباب الّتي أوجدت الانتفاضة الكرديّة في سوريا. في جنديرس، صداميّون من ميليشيا جيش الشرقيّة يطلقون النار على محتفلين في ليلة عيد النوروز، ويسقطون عدداً من الضحايا. في السنوات الخمس الماضية، منذ احتلال المدينة، كانت احتفالات عفرين بعيد النوروز شبه سرّية، تقتصر على بعض المظاهر البسيطة في عدد من القرى، وداخل المنازل، إذ شهدت المنطقة منعاً وقمعاً ممنهجاً لكلّ محاولة استعراض للهوية الكردية في المدينة، ناهيك بأن معظم سكان المنطقة مهجّرون، والكرد في المدينة يشكّلون أقليّة صغيرة بعد سنوات من التغيير الديموغرافي، إلّا أنّ كارثة الزلزال الّتي حلّت على جنديرس، أعادت إظهار هويّتها الكرديّة، وأحيت من بقي في المدينة.
دخلت منظّمة “بارزاني الخيريّة” المنطقة عقب الزلزال، فخرج الكرد من منازلهم، وحملوا أعلامهم من جديد، وكأن قافلة المساعدات أعادت إليهم الروح، برغم كارثة الزلزال.
فطوال خمس سنوات، كان أبناء هذه المدينة مخطوفين ومعتقلين ومتّهمين ومهدّدين بالقتل بسبب هويتهم القومية، فيما أراضيهم مسلوبة وبيوتهم وأرزاقهم مستباحة للجيش الوطني ولتركيا.
بعد دخول منظمة البارزاني، بات الناس يُعلنون عن أنفسهم، ويتحدّثون بلغتهم، إلى أن قرّروا إشعال نار النيروز على مقربة من خيمهم التي ينامون فيها جانب منازلهم المهدّمة، لكن عادت العربات التي كانت تجوب قامشلو، وأطلقت النار عليهم، وكأن الرسالة في جنديرس تكرر ما قُيل عام 2004: كلّ محاولة إظهار للهوية الكرديّة، كل مسعى ومطمح إلى الحريّة من الاستبداد، يُقابل بالرصاص.
تُشير الميثولوجيا الكُرديَّة، إلى أنَّ الملك آزدهاك، كان يأكل أدمغة أطفال الكُرد بسبب مرض حلّ به، ليثور عليه كاوا الحداد ويُنهي حكمه، ويقوم بإشعال النيران على قمة الجبل؛ ليطلق على يوم نهاية حكم الملك “نوروز”، أي “اليوم الجديد”.
موقع درج