عن سؤال الفن والثقافة في سورية بين الأمس واليوم

بعد سنوات من القمع والتشريد والتدمير، ومع السقوط المدوي لنظام الأسد، بات قطاع الفن التعبيري في سورية، بخاصة التلفزيون والسينما والمسرح، في مواجهة مشكلات او تحديات كبيرة مختلفة، في مرحلة ما بعد الأسد. فهو كان طوال عقود من الزمن جزءًا من آلة الدعاية الرسمية للنظام، وأداة للترويج السلطة ولأشخاصها وسياساتها وأيديولوجيتها. وقد شهدنا أن الفنانين الذين حاولوا الخروج عن هذا الإطار تعرّضوا للاستبعاد والتهميش والاضطهاد، وضمنه السجن والخروج من البلد. الآن، مع بداية مرحلة التحرّر والخلاص من النظام السابق، يُطرح السؤال: هل سيواكب الفن السوري المرحلة الجديدة بما تحمله من معاني الحرية والمواطنة وانتهاء عهد الاستبداد، أم سيظل أسيرًا للسلطة الآتية، مهما تكن؟

بديهي أن الواقع الثقافي والفني والإعلامي والأكاديمي في سورية، بكل أشكاله وتعبيراته وأدواته، بعد التحرير، يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الفن والسياسة، أو بين الثقافة والسلطة. ففي ظل سنوات من الحرب، ومع انتشار القمع على جميع الأصعدة، انقسمت توجهات الفن، وانحيازات الفنانين، ففي ضفة المعارضة، وظّف الأدب والفن، في الرواية والشعر والفنون التشكيلية، والتعبيرية، وضمنها المسلسلات والأفلام الوثائقية، للتحريض على النظام وفضح جرائمه، وتوثيق معاناة السوريين، ومقاومتهم الظلم والاستبداد، لكن مع انتهاء الحرب وتحرير البلاد، بات ثمة أوضاع جديدة، تطرح عديد من الأسئلة حول دور الفن والأدب في المستقبل، وهل سيظل يحمل طابع المقاومة أم سيتحول إلى أداة للسلطة الجديدة باعتبارها منتصرة؟

من المعروف أن كل صنوف الفن والثقافة تواجه، في ظل الأنظمة الاستبدادية، قيودًا صارمة. ففي سورية، كما شهدنا، كان الفن جزءًا من آلة القمع، حيث تم توظيفه لتجميل صورة النظام وفرض هيمنته. ففي هذا السياق، كان من سمّوا بفناني النظام السوري يلعبون دورًا مساندًا مهمًا في الحياة السياسية، بحيث لا يمكن إغفال أن بعض الفنانين أسهموا في تعزيز شرعية النظام السوري وتوجيه الرسائل التحريضية ضد الثورة، والتشويش على الرأي العام، فقد استخدم النظام بعض الأسماء “المشهورة” في حملة إعلامية ممنهجة لتحريض الشارع ضد المتظاهرين من جهة، ولتشجيع الناس على مساندة نظام يقتل شعبه.

هؤلاء الفنانون، مثلًا، الذين كانوا في الماضي جزءًا من المشهد الفني السوري المحبوب والمشاهد، تحولوا إلى أدوات دعاية سمجة لنظام الأسد، عبر برامج تلفزيونية ومسلسلات وأغانٍ وتصريحات علنية، حتى إن بعضهم ظهر بين جموع من أفراد الجيش، في اللباس العسكري، لتبرير أعمال القتل والقمع، والترويج للولاء الكامل، ولمحاربة ما كان النظام يسميه “المؤامرة”. هذا التحول في أدوارهم كان جزءًا من استراتيجية النظام لاستخدام الفن والفنانين كأدوات تحريضية، بل ومبرّرة لانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تحدث في تلك الفترة.


“كانت قطاعات الفنون والثقافة والإعلام إحدى أهم أدوات المقاومة في سورية، سواء عبر الرسومات على الجدران التي حملت رسائل الثورة، أو من خلال الأدب الذي نقل آلام الشعب السوري، أو السينما التي وثقت الحرب”

هذا الدور الذي لعبه الفنانون في تحريض الشارع ضد الثورة، وصولًا إلى مساندة الجيش في قتاله لوأد إرادة الحرية والتغيير لدى الشعب السوري، يطرح تساؤلات حول العلاقة بين الفن والسلطة؟ وكيف يمكن للفن أن يتحرّر من الهيمنة السياسية السلطوية بعد التحرير؟ وهل سيظل الفن حليفًا للسلطة مهما كانت، أم أن هناك فرصة حقيقية لإعادته إلى دوره الأصلي كأداة للتعبير عن المجتمع وأحواله وتطلعاته؟

بعد النصر الكبير الذي توّج بدخول فصائل المعارضة السورية المسلحة إلى دمشق (في 2024/12/8) وتحريرها من براثن (الأسد الفارّ) ستكون أمام الفنانين السوريين فرصة كبيرة لإعادة اكتشاف أنفسهم، بعيدًا عن القيود التي فرضها النظام السابق. لكن هذا التحول لن يكون سهلًا، إذ سيحتاج قطاع الفنون (والثقافة والإعلام والتعليم عمومًا) إلى وقت طويل للتعافي من آثار القمع، ولإيجاد سبل جديدة للتعبير عن الواقع السوري وتطلّعاته للمستقبل. وقد يواجه الفن السوري صعوبة في الخروج من ظل السلطة، خاصة في حال لجأت السلطة الجديدة إلى توظيف الفن والثقافة، حسب توجهاتها، أو سعت إلى فرض القيود على حرية التعبير كما فعل النظام السابق، ونأمل ألا يحدث.

في الوقت نفسه، فقد كانت قطاعات الفنون والثقافة والإعلام إحدى أهم أدوات المقاومة في سورية. سواء عبر الرسومات على الجدران التي حملت رسائل الثورة، أو من خلال الأدب الذي نقل آلام الشعب السوري، أو السينما التي وثّقت الحرب، هذه الأعمال الفنية ستكون جزءًا من الذاكرة الجماعية للشعب السوري، وستظل شاهدة على معاناته ونضاله، وستكون هناك فرصة لتوجيه هذه الطاقة الفنية الحرة نحو بناء هوية وطنية جديدة، هوية تتجاوز حدود الانقسام الطائفي والسياسي، وتحتفل بتنوع المجتمع السوري، وتنتقد سلبياته على الأصعدة كافة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتشريعية.

من جانب آخر، يمكن للفن والثقافة والإعلام أن يلعب دورًا مهمًا في عملية المصالحة الوطنية، في بلد عانى من حرب صورها النظام كحرب طائفية ومناطقية، ويحتاج إلى إعادة بناء الجسور بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري، كي يغدو مواطنين متساوين وأحرار، وكي يصبحوا شعبًا حقا، بغض النظر عن الهويات ما قبل الوطنية.  

هذا يفترض تسليط الضوء على قصص الضحايا من جميع الأطراف، والتي قد تكون صادمة، فحتى عند سماع تصريحات بعض الجنود من جيش النظام الهارب تكتشف عمق المأساة، حيث الخلل النفسي والإعاقات الإدراكية لهؤلاء تجعل من قصصهم مادة حيوية لفهم حقيقة المشهد السوري على اتّساع زواياه، مما يساهم في بناء نوع من التفاهم والتسامح بين السوريين. إن الفن في هذه المرحلة سيكون أكثر من مجرد وسيلة للتعبير، بل سيكون أداة لبناء السلام الاجتماعي والمصالحة.

إذا تمكن الفنانون والمثقفون والإعلاميون والأكاديميون السوريون من الحفاظ على استقلاليتهم وحرية تعبيرهم، يمكن لهم أن يكونوا بمثابة أداة قوية في بناء سورية الجديدة، المتأسسة على قيم الحرية والمساواة والعدالة، ما يتطلب تجاوز إرث النظام السابق، ببناء دولة مدنية حديثة، لا مكان فيها للديكتاتورية أو الفصائلية أو الطائفية أو التعصب، ما يعكس تطلعات السوريين وآمالهم.

في النهاية، يبقى السؤال حول دور الفن والثقافة والاعلام والأكاديميا في سورية بعد التحرير مفتوحًا، وهذا السؤال برسم الإجابة، وعليه تتوقف استقلاليتهم عن كل أشكال الهيمنة السياسية والسلطوية والأيديولوجية، سورية الجديدة تستحق ذلك كي تنهض وتنفض عنها أدران الماضي إلى الأبد.

ضفة ثالثة