الخط البياني السياسي ودائرة الشرق التوازني

روماف – رأي

من المعلوم، أن كل ما يجري في الشرق الأوسط من أحداث ليست سوى مسارات متسلسلة ومترابطة على مرّ التاريخ لِما للشرق من دور في التوازن والانتعاش العالميين لموقعها الجيوسياسي وغناها بالموارد الاقتصادية المتنوعة، لذا تنتهي كافة المقايضات والمصالح إلى تسويات التراضي بين الدول العظمى من خلال تقسيم ما فوق وما تحت أرض الشرق الأوسطية بينهم، في حين تترنح تلك الشعوب على خيبات الفقر والذل التي ورثوه من سمفونية العقائديات البالية.

وإذا ما تتبعنا المسار البياني للخط السياسي الدولي على مرّ التاريخ نلاحظ أن منطقة الشرق الأوسط تبقى مركزاً محورياً وأساس التوازنات في الصراعات الدولية، لموقعها الجيوسياسي المميز ذات قوة استراتيجية عميقة، رغم أن معظم شعوب الشرق الأوسطية لا يعلمون مدى أهميتهم وأهمية جغرافيتهم.

وتسارع وتيرة الأحداث والسباق المحتدم بين القوى الكبرى لفرض إملاءات جديدة وسياسات الهيمنة والنفوذ قد يكون لوضع صيغ جديدة للشرق الأوسط، كما في السابق في الربع الأول من القرن الماضي عندما كان الصراع محتدماً بين الدول الكبرى، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وحلفاؤها من جهة، وروسيا وألمانيا وحلفاؤها من جهة أخرى، وانحسمت الخلافات بين الجبهتين على حساب الجبهة التركية العثمانية ومنطقة الشرق الأوسط الضعيفة، بتقسيمها وفق المصالح والنفوذ.

وأيضاً قبلها عندما احتدم الصراع بين الإمبراطوريتين الصفوية والعثمانية وكان الحسم على حساب شعوب الشرق الأوسطية، وذلك بتقسيم المنطقة بينهما ورسم حدود إمبراطوريتهما على حساب شعوب تلك المنطقة، وهكذا منذ فجر التاريخ، والحسم في نهاية المطاف على حساب منطقة الشرق الأوسط، هذا الصراع وهذا الحسم مستمرّ حتى الآن.

يبدو أن منطقة الشرق الأوسط حلبة منافسات بيد الدول الكبرى، لذا نرى، هذه التحركات وهذه المناورات وتحت يافطات تُشرعن لهم الحركة وعقد اجتماعات ومؤتمرات وتحت مسميات القمم حسب ما يتم تداوله على ألسنة مسؤوليها، وفي وسائل إعلام من يختبئ وراءها من دول الخليج وغيرها خوفاً من انزلاقها إلى ما لا يُحمد عقباها، ليس خوفاً على شعوبها بل الخوف من هزّ أركان أنظمتهم، الذي يحكم عليه بقبضة من الدكتاتورية والاستبداد.

في هذا السياق، فإن الضجة الإعلامية التي سبقت زيارة الرئيس الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط، والتحليلات عن تشكيل ناتو على غرار ناتو الغرب، والتفنن في مستقبل هذه القوة وقدرتها على مواجهة أي خطر قد تواجه هذه الدول لم تثمر، بل لم تحقق مرادها. ولكن كل تلك التوقعات لم تكن على قدر سوية هذه التحليلات والتوقعات من قبل رؤساء ومسؤولي تلك الدول الشرق الأوسيطة، وهذا ما جعلهم يرتبكون، وخاصة عندما إبتدأها الرئيس الأمريكي جو بايدين بزيارة إسرائيل وتصريحه بإبقاء قرار حل الدولتين قيد التعليق، إلى وقتٍ لاحق، دون تحديد الزمن، وإعلانه عُقب زيارته إلى الرياض أنه جاء من أجل الأمن والطاقة ولكنه لا ينسى ملفات حقوق الإنسان وقضية خاشقجي، هذا الإعلان يبعث رسائل عدة ليس فقط للمملكة السعودية بل إلى جميع دول المنطقة.

ظهر من زيارة بايدن إلى الشرق الأوسط ولقائه برؤساء دول الخليج، إضافة إلى الأردن ومصر والعراق، مدى هشاشة أنظمة هذه الدول، ليسوا سوى أدوات لتنفيذ إملاءات الدول الكبرى، حسب اعتقادي، وليس كما تمّ الترويج له في إعلام تلك الدول التضخيم والترفيع.

وفي المقابل، التحركات الروسية إلى المنطقة، وعقد اجتماع مماثل على مستوى الرؤساء في العاصمة الإيرانية طهران بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، والغرض هو اجتماع مضاد.

يوحي أن الحدثين ليست مصادفة، بل يخفي في طياته الكثير، وخاصة حصولها في عاصمتين لدولتين إسلاميتين ولكن مختلفتين مذهبياً، الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية والمملكة العربية السعودية السنية، وهذا بحد ذاته يطفي توترات دينية أكثر اشتداداً، صراع خلقه الغرب لسهولة تمرير سياساتها، وما الفوضى العارمة التي تجتاح المنطقة هو صراع بين هذين المذهبين ولكن بغطاءات سياسية واقتصادية.

بيد أن مَنْ خلق هذه الفوضى في منطقة الشرق الأوسط وتحت مسمى الربيع العربي، أو يمكن تسميتها الخريف العربي، هم أنفسهم مَنْ رسموا جغرافية المنطقة وأوجدوا أنظمتها، وهذا الشد والجذر بين أمريكا الغربية وروسيا الشرقية ونحن على أعتاب انتهاء كافة الاتفاقيات التي أبرمت في الربع الأول من القرن الماضي، وكل طرف يحاول سحب البساط نحوه وكسب أكبر قدر من النفوذ والمصالح والأهم تحالفات جديدة مع دول جديدة في المنطقة. في خضم هذا الصراع تلعب كلاً من تركيا وإيران على حبال صراع القطبين، لفرض إملاءاتهما ومآربهما من خلال أذرعهما وأدواتهما على الأرض، وعلاوة على ذلك كسب ما يمكن كسبه من خلال المقايضات والتوازنات بين القطبين أمريكا وروسيا.

وعليه، إن الصراع بين أمريكا وروسيا ومَن خلفهما سيستمر ويتوسع نطاقه، وقد تتولد ضمن هذا الحرب حروب أخرى وفي مناطق أخرى، ومنطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق ضمن دائرة الخطر.

الصراع لن يتوقف إلى أن يتم وضع خرائط جديدة لجغرافيا جديدة، ولكن ذلك الترسيم على ماذا ترتكز؟ إلى الآن غير واضح، ما هو واضح هو أن الدول الضعيفة والأنظمة التي ترزح تحت مظلة الديكتاتوريات هم الأكثر إرباكاً والأكثر تعرضاً للتغيير.

إذاً، منطقة الشرق الأوسط على حافة أحداث وتغيرات جذرية، توحي بفرض سياسات وتوازنات جديدة، قد يكون لشعوب المنطقة وخاصة الأقليات التي عانت من تلك الأنظمة رؤى وكيانات شبه ديمقراطية تعيد بعض من كرامتها واستقلاليتها، فشعوب دول الشرق الأوسط الجديد غير ما كان عليه خلال المئة السنة الماضية، سيكون لهم مسارات قريبة لِما يعيشه شعوب الدول الغربية.

شارك المقال

مقالات أخرى